"تصبحي علي خير يا نور"
قالها رجل في الاربعينات من عمره تاركاً قبلة رقيقة علي خد ابنته نور ذات السبعة اعوام.
نظرت اليه الطفلة وعلي شفتيها ابتسامة حائرة ثم قالت:
"بابا , تفتكر الورد هيوصل لماما وهتعرف اني انا اللي بعته ليها في عيد الام"
"طبعا يا حبيبتي هيوصلها وهتعرف انك انتي اللي بعتيه وانك انتي اللي اشترتيه كمان"
قالها الرجل مطمئناً ابنته , وفي قرارة نفسه متمنياً ان يكون ما يقوله لابنته حقيقيا.
"بابا انا كان نفسي انا اللي اعطيها الورد بايدي وابوسها علي خدها واقولها وحشتيني اوي"
كادت دموعه تغلبه , فحاول اخفائها قائلا
"انتي كمان وحشتيها اوي واكيد هي كمان كان نفسها تبوسك وتقولك اد ايه الورد كان جميل , يللا بقي تصبحي علي خير"
"وانت من اهله يا بابا"
قالتها علي الرغم منها فلم تكن اسئلتها انتهت بعد ولكنها شعرت كما تشعر كل مرة تتحدث فيها عن والدتها مع أبيها انه لا يريد التمادي في الحديث , فكلماته عنها قليلة , واجاباته علي اسئلتها مقتضبة دائما.
انطفأت الأنوار في الغرفة وأضاءت في عقلها مئات الأسئلة , انها لم تري والدتها منذ سنوات وتكاد لا تتذكر ملامحها لولا الصورة التي تحتفظ بها لها في غرفتها , كل ماتعرفه عن والدتها انها لا تستطيع ان تاتي لرؤيتها ولا تستطيع هي ان تذهب اليها , أخبروها انها كانت تحبها وهي تشعر بذلك الحب في قلبها ولكن لماذا تركتها فجأة؟! ولماذا لم تاخذها معها؟!
أخذت تسترجع احداث اليوم , كانت هناك حفلة بالمدرسة , حفلة عيد الام , اعتادت نور ان تهدي مدرساتها اجمل الهدايا , وان تذهب لتشاهد كل طفل وقد اتي بصحبة والدته ممسكا بيدها , اما هي فتجلس بعيدا حتي لا يسألها احد عن أمها , فهي نفسها لا تفهم لكي تستطيع اخبارهم. كل عام تحتفل ويتكرر امامها المشهد تري الأطفال وامهاتهم تسمع الأغاني التي تذكرها بشيء فقدته وحُرمت منه ولا تدري لماذا؟
"يا رب يخليكي يا أمي"
يقولها كل الأطفال وكانت لا تدري أتقولها أم لا؟! وهذا العام لم تنجو من نظرات أصدقائها ولم تسلم من أسئلتهم الصعبة التي كان يعجز عقلها الصغير عن استيعابها.
فجاة نهضت نور من سريرها واتجهت الي النافذة ونظرت منها الي السماء والنجوم التي تلمع بها , كانت السماء مضيئة فالقمر بدراً هذا اليوم , اخذ عقلها يطرح عليها الأسئلة مرة اخري , ولكنها لم تجد من يستمع اليها. اخبرها والدها ذات مرة أن أمها "فوق عند ربنا" حاولت كثيرا فهم الأمر او تخيله ولكنها لم تستطع , وفي كل مرة كانت تحاول ان تسأله كان ينهي الحديث , نظرت الي السماء وأخذت تسأل نفسها
"ياتري ماما متعلقة زي النجوم ولا هي عند القمر؟ يا تري هي بتنور زيهم؟ يا تري هي شايفاني دلوقتي؟
واخذت تناجي ربنا وتطرح عليه كل الأسئلة التي تدور بعقلها , فاذا كانت أمها فوق اذن فهي تراها ويمكنها سماعها وربما استطاعت ان تجيبها أو حتي لو كانت لا تراها فربما سمعها ربنا واجابها :
"يارب , قول لماما انها وحشتني اوي , واسألها هي ليه سابتني , ليه ما اخدتنيش معاها , قولها تبعت حد ياخدني عندها , النهاردة كل الأطفال كانوا مع امهاتهم وهي ليه مش بتيجي وتروح معايا؟! يا رب قولها اني مش زعلانة منها علشان انا بحبها أوي , يارب عايزة أروحلها , يارب انا باسمع كلامك ونفسي أروحلها أوي , يارب خدني عندها , يارب خدني عند ماما أعيش معاها , يارب خدني عندها ولو حتي النهاردة بس".
*-*-*-*-*-*-*
من يومين احتفلنا بعيد الأم , فمنا من دعا بان "ربنا يخليها" ومنا من دعا بأن "يغفر الله لها ويرحمها" وفي الحالتين يمر اليوم كأي يوم فمنا من يفرح ومنا من تتجدد بداخله الأحزان , أتذكر وأنا بالمدرسة يوم الاحتفال بعيد الأم صديقة لي كان هذا اليوم بالنسبة اليها اكثر الأيام ايلاماً ,كنا نحفل وهي تتألم , تعودنا ان نحتفل غير مراعيين لمشاعر من حولنا , ولكن لنجعل عيد الأم ليس مجرد احتفالاً وانما تذكير الأبناء بحق أمهاتهم عليهم حية كانت أو متوفاة , فان كانت بيننا ندعو لها بدوام الصحة ونراعيها ونهتم بها , وان كانت فارقتنا فندعوا لها كثيرا ونزورها فهذه أجمل الهدايا التي نقدمها لها في هذا اليوم , ولا تنسوا ان الأموات يشعرون بنا كما الأحياء..
كل عام وكل أم تحت أقدامها الجنة..