أسرع خُطاه ليلحق بالقطار فقد كان علي وشك مغادرة رصيف محطته بالقاهرة. صعد اليه وحمد الله انه لم يتأخر أكثر من ذلك والا كان فاته القطار. سار قليلاً متخطياً بعض الواقفين حتي وصل الي مقعده , فوقف متسمراً في مكانه وبيده تذكرة القطار.
كانت تجلس في مقعده فتاة في العشرينات من عمرها ترتدي ثوب أسود ينعكس لونه علي عينيها الحزينتين, نظرت اليه محاولة الاعتذار
عذرا ولكن هل يزعجك اذا استبدلنا مقاعدنا , فأنا أفضل الجلوس بجوار النافذة؟
لم يجبها وانما ظل في مكانه بلا حراك, لا ينطق ولا يُحول عنها نظره فاستدركت قائلة :
حسنا , لم أكن أعلم ان هذا سيزعجك , تفضل
عندما همت بالتحرك من مكانها انتبه هو وردّ قائلا
لا لا تفضلي لا ازعاج في ذلك أبدا , يمكنني الجلوس في أي مكان
شكرته وجلست مرة أخري وجلس هو في المقعد المجاور متصلبا وراح في التفكير
هل من الممكن أن يحدث هذا؟ هو لا يصدق حتي الان انها تجلس بجواره بل وتحدثت اليه , المرة الاولي التي تمكن فيها من سماع صوتها ولم يحسب يوما انه سيتمكن من ذلك أبدا. لقد راها من قبل أكثر من مرة بالقطار , فمنذ ذلك اليوم الذي راها منتظرة علي محطة القطار وشيء ما جذبه اليها , ربما كان سفرها المتتكرر وحدها , وربما نظراتها التائهة التي يغطيها بعض الحزن , لم يدري وقتها السر في ذلك وهاهو الان في المقعد المجاور لها.. أيُعقل هذا؟
__________________
اختلس بعض النظرات اليها بطرف عينه فوجدها منهمكة في قراءة كتاب ما , حاول تدقيق نظره اكثر قليلا حتي رأي غطاء الكتاب , فذُهل أكثر من ذي قبل.. أيُعقل هذا؟ هي تقرأ نفس الرواية التي يقرؤها هو هذه الأيام! لم يكن يدري أيصدق ما يري أم أنه ربما يهذي من جراء سهره ليلة امس واجهاده في العمل.
مد يده بحقيبته وتناول الرواية وفتحها محاولا جذب انتباها اليه. وبدأ في قلب الصفحات واحدة فأخري وكأنه يقرأ وانما كانت عيناه في اتجاه اخر.لم تلتفت هي اليه فقد كانت منهمكة في القراءة , فحاول لفت انتباها اكثر والبدء في حديث لم يكن يدري كيف سينتهي..
هل أعجبتك هذه الرواية؟
فاجأها سؤاله , فالتفتت اليه في دهشة
لم انتهي منها بعد ولكن لا بأس بها
أشعر من كلامك انها لم تنل كل اعجابك
لاحظت هي وجود الرواية بيده فتعجبت من ذلك كثيرا وتوجست منه خيفة , فأجابت في حذر
القصة لا بأس بها ولكنني غير مقتنعة بفكرتها
ألا تؤمنين بالقدر؟
بالطبع أؤمن به , ولكنني لا أؤمن بالخيال علي أرض الواقع , والرواية تمثل واقعا بوجهة نظر خيالية
الواقع أحيانا كثيرة يحمل الكثير من الخيال
كان النقاش بينهما قد بدأ يحتد قليلا وتفاعل كل منهما مع كلام الأخر
القدر من عند الله اما الخيال فهو من صنع الانسان , أليس كذلك؟
نعم , صدقتِ ولكن لولا الخيال لما استطاعت عقولنا استيعاب القدر.
لم تٌجبه وانما أطرقت برأسها قليلا , فرأي هو في عينيها تلك النظرة التي كانت السبب في جذب انتباهه اليها من قبل , فاستطرد قائلا
هل تسمحين لي بسؤال قد يحمل بعض التطفل مني؟
نظرت اليه لحظات ثم أجابته في فضول
أي سؤال هذا؟
ما سر هذا الحزن الذي تحمله عيناكِ؟
وكأنه تخطي حاجزاً ما , نظرت اليه في استنكار وكأنها تقول له هذا ليس من شأنك , ولكن بدلا من هذا وجدت نفسها تُجيبه في هدوء وعلي شفتيها ابتسامة سخرية مخلوطة بألم
انه القدر
وهل لي أن أتعرف الي هذا القدر الذي استطاع رسم كل تلك معاني الحزن بعينيكِ؟
ربما انك لم تلمح السواد الذي أرتديه , حسنا فقد فقدت والدي ووالدتي في حادث منذ سنوات قليلة
صدمه ردها وأعجزه عن النطق لحظات قليلة , حاول بعدها الاعتذار
البقاء لله , اسف ان كنت ذكرتك بذلك ولكنني لم أقصد حقا
لا بأس فأنا لم أنس لتذكرني , هذا هو اليوم الوحيد الذي لن أنساه مهما حييت , لقد كنت معهما يوم الحادث وكأنني بقيت لأتجرع العذاب وحدي
هل كان حادث سيارة؟
نعم.. كنا في طريق عودتنا من الاسكندرية بسيارة أبي , وتوقفنا علي الطريق لشراء بعض الحاجيات , نزلت أنا وأمي وانتظرنا أبي في السيارة , ولحظة دفع حساب ما اشتريناه تذكرت أمي انها نسيت حقيبة يدها بالسيارة فتركتني وذهبت لاحضارها , ثم فوجئنا جميعا بصوت اصطدام يأتي من الخارج , خرجت لأجد سيارتنا محطمة تماما وكان ما كان
انهمرت هي في البكاء , وأصابته هو حرقة شديدة فقد شعر انه السبب في تذكيرها بذلك , أخرج منديلاً ومد يده لاعطائها اياه
انا اسف حقا , أرجوكِ لا تبكي , أشكري القدر الذي أنقذك من موت محقق , أرأيت أن القدر أحيانا يحمل بعض الخيال , خرجت انتي ووالدتك من السيارة وشاء القدر أن تعود هي وحدها , هل اذا قرأت قصتك باحدي الروايات ستقولين أنها قدر أم خيال؟
عجيب هذا القدر
نعم عجيب جدا.. أوتدرين شيئاً , لقد رأيتك مرات كثيرة بالقطار وكنت كلما نظرت اليك تسائلت عن سر حزن عينيك الي هذه الدرجة ولم أكن أتصور أبدا السبب , كنت دائما أتسائل عن سبب سفرك الدائم وحدك؟
نظرت اليه في دهشة , اذن ليست المرة الأولي التي يراها , تذكرت نفس الرواية التي كان يقرؤها منذ قليل وجلوسها في مقعده , ارتبكت قليلا ثم حاولت استجماع افكارها وأجابته
أقيم الان بالاسكندرية مع خالتي , ولكنني أحضر الي القاهرة من حين لاخر لزيارة والديّ ولزيارة منزلنا ودفع الايجار
وأيهما تفضلين.. الحياة بالقاهرة أم الاسكندرية؟
أنا أتمني ترك الاسكندرية فقد كان أخر يوم قضيته معهما هناك عند خالتي , ولكنني لا أستطيع الحياة في القاهرة وحدي
أنا أيضاً , لقد قررت الانتقال الي القاهرة اذا تزوجت لأكون قريبا من عملي , فهل تتخيلين أنني أستقل يوميا قطار السادسة صباحا من الاسكندرية الي القاهرة وأعود في هذا القطار , كاد اليوم أن يفوتني القطار ولكن حمدالله أنني لحقت به , لم أكن لأسامح القدر اذا لم ألحق بهذا القطار
ابتسمت هي له في تحفظ ونظرت في الاتجاه الاخر تجاه النافذة فبادرها هو بسؤال اخر
لِم اخترتِ الجلوس بجوار النافذة علي الرغم من انك لم تُزيحي الستار عنها ولم تنظري منها الي الان؟
لقد تعودت أن اجلس بجوار النافذة دائما , يشعرني هذا بالأمان قليلا
ولكن أجمل ما في السفر بالقطار أن تنظري من النافذة لتتأملي الطريق , البيوت مصطفة أمامك بأشكالها المختلفة بعضها يرحل الي الخلف ويأتي غيرها , تشاهدي الشمس وهي تغطي الأرض في حب ودفء والأشجار الخضراء وهي تتسابق الي عينيك والقطار في طريقه لا يخرج عنه ولا يتوقف أبداً
مد يده لازاحة الستار فاستطاع ضوء الشمس التسلل الي وجهها فأغمضت عينيها قليلا محاولة تجنبه , ثم بدأت في فتحها شيئا فشيئا و النظر من خلال النافذة , أما هو فقد كان يتأمل وجهها الذي أضاء مع أشعة الشمس الذهبية .
أخذ يحكي لها عن حياته , منزله وأهله , وعمله , كل شيء عنه .. وكانت هي تستمع اليه فقط ولا تجيب ,حتي راحت عيناها في النوم وجلس هو بجوارها يراقبها في هدوء وهو يسمع صوت أنفاسها.
لقد تأكد من ذلك الاحساس الذي شعر به في المرة الأولي التي راها بها , هو الان فقط يدرك انه لم يكن مجرد شعور خفي بل حقيقة يراها الان أمام عينيه ,بل واكتشف انها أجمل كثيرا من خياله.
______________________
وصلنا الاسكندرية , حمدلله علي سلامتنا
فتحت عينيها ونظرت من حولها لتُدرك أين هي ومَن هذا
لا أدري كيف نمت , انها المرة الأولي التي أنام فيها أثناء سفري بالقطار
نظر اليها في حنان وقال لها:
المهم أن تكوني بخير وراحة
شكرا لك
شكرا لكي أنتي علي هذا الحديث الممتع الذي لن أنساه مهما حييت ولكن هل لي ان أتشرف بمعرفة اسمك؟
قدر , فلنجعله قدر
حسنا كما تُحبين , اسمي نا...
فوجيء بها وهي تضع يدها فوق شفتيه
لا أريد أن أعرف
حسنا.. أسأراكي مرة أخري؟؟
فلنتركها للقدر
حسنا كما تريدين .. الي اللقاء
الي اللقاء
____________________
شهر مر وهي بالاسكندرية تفكر في ما حدث , لا تدري سر هذا الشعور الذي انتابها منذ ذلك اليوم , تتعجب منه تارة ومن نفسها تارة أخري , كيف طاوعته في الحديث الي هذا الحد؟ كيف سمحت له بتخطي حدود لم يتخطاها أحد أبداً؟ كيف استسلمت للنوم وهي تجلس بجوار شخص غريب وهي التي لا تطمئن ابداً للنوم في القطارات؟
حتي جاء يوم سفرها الي القاهرة , لقد أخبرها أنه يستقل قطار السادسة كل يوم , ارتدت ثياباً ملونة وكانت هي المرة الأولي التي تفعل بعد وفاة والديها , نزلت من منزلها مودعه خالتها ووقفت لتستقل سيارة أجرة الي محطة القطار , كان الوقت باكرا والشارع خاليا الا من بعض المارة , بعد فترة جاءت احدي السيارات فركبتها وطلبت من السائق أن يُسرع لتلحق بقطار السادسة.
في الطريق تعطلت السيارة واضطر السائق للتوقف قليلا لاصلاحها , وكانت الساعه قد قاربت علي السادسة , اضطربت هي كثيرا فالقطار علي وشك المغادرة.
عندما وصلت الي محطة القطار كان القطار قد غادرها , وقفت تنظر اليه في أسي ونزلت من عينيها عبرة سقطت علي الرصيف وتناثرت وكأنها كانت تحمل معها أملاً تناثرت أجزاؤه.
اتجهت الي شباك حجز التذاكر لحجز تذكرة في القطار التالي , وخرجت لتقضي الوقت في أحد المطاعم القريبة من المحطة , واتصلت بخالتها لتطمئنها.
قضت الوقت في قراءة الرواية حتي انها انتهت من قرائتها قبل الوقت , فقضت ما تبقي من وقت في التفكير.
لقد حاولت خداع القدر , كانت علي علم بأنه يستقل قطار السادسة ولكنها لم تتمكن من لقائه, بالتأكيد ليس مقدرا لها أن تلقاه مرة أخري , لقد لعب بها الخيال وألقاها علي طريق مسدود منذ بدايته , قررت أن تقص هذا اليوم من شريط ذكرياتها وأن تدفن ذلك الاحساس بقلبها.
________________
في التاسعة توجهت لمحطة القطار , ورغما عنها وجدت نفسها تنظر في أوجه الناس من حولها باحثة عنه , حتي وصلت الي القطار وجلست في مقعدها.
كان مقعدها بجوار النافذة هذه المرة, فأزاحت الستار وألقت برأسها علي ظهر المقعد في تعب تسترجع أحداث المرة السابقة.
انتبهت علي صوت سمعته من قبل , تعرفه جيدا , فتحت عيناها لتجده أمامها يقول
هل يُزعجك اذا جلست بجوار النافذة سيدتي؟
ابتسمت له في دهشة يخالطها شعور بالفرحة حتي كادت تقفز من مقعدها وقالت له
بالطبع لا.. ولكن ..كيف؟ ألست تستقل قطار السادسة؟
نعم ولكنني اليوم في مهمة خاصة بالعمل في ميعاد متأخر قليلا , كنت أشعر انني سأراكِ اليوم , ولكني لم أحسب انك ستكونين رائعة كذلك
تورد وجهها قليلاً خجلاً ثم قالت له
لقد انتهيت من الرواية اليوم وأنت الي أي فصل وصلت؟
مد يديه لتحتضن يديها بينهما ثم قال لها
وأنا أيضاً وصلت للفصل الأخير.. وبدأت السطر الأول في رواية جديدة
..