صباح اخر مزدحم... منذ استيقظت وهي تجري في منزلها يمينا ويسارا محاولة جمع أشيائها المبعثرة هنا وهناك. تخشي أن تنسي شيئا في سفرها كعادتها, فعلي الرغم من ان السفر أصبح عادتها وجزءا لا يتجزأ من حياتها الا انها في كل مرة تكتشف شيئا قد نسيته, كان اخرها أوراق البحث الذي كانت تُعده وذهبت لمناقشته وفوجئت بعد ان صعدت الي الطائرة بعدم وجوده.
لقد كان السفر كل أحلامها , فطموحها كان اكبر من أي شيء اخر في حياتها. كان هاجسها الأكبر ان تكون حبيسة المنزل كوالدتها تجلس في انتظار عودة زوجها واولادها لتعد لهم الطعام. لم تكن تلك الحياة تحلو لها , فكم تمنت أن تنقذ والدتها مما هي فيه. ولكن سيطرة والدها كانت اقوي من أي شيء , وربما هي حاولت تعويض ذلك في شخصها الحالي. فها هي تتقلد منصب هام باحدي الجامعات العلمية , ولم تجلس يوما حبيسة المنزل كوالدتها ,هي تخرج , تسافر , تتصرف في حياتها كيفما شاءت , ومثلما أرادت دوما.
وضعت أشيائها بالحقيبة في عُجالة , وهي تتمتم بكلمات تسخر فيها من نفسها ومن تكاسُلها. لقد رجعت امس من الخارج منهكة تماما وألقت نفسها علي فراشها حتي انها لم تُبدل ملابسها , ونامت هرباً من الملل والسأم الذي يصيبها اذا بقيت مستيقظة, فكيف كانت ستُعد حقيبة سفرها؟! هي دائما تُؤجل , ودائما تتكاسل ودائما تنسي.
نزلت بحقيبة سفرها ووقفت أمام المنزل لايقاف سيارة أجرة تُقلها للمطار, وفي هذا الوقت الباكر كان من الصعب ايجاد واحدة..
"تبا لسائقي سيارات الأجرة لا تجدهم عندما تحتاج اليهم!"
تمتمت بتلك الكلمات وتذكرت فجأة أنها نسيت معطفها الثقيل الذي كانت تحمله علي يدها فاضطرت الي حمل حقيبتها والصعود بها مرة اخري لاحضار المعطف.
..من بعيد كان يجلس بواب العمارة يراقبها ولكنه لم يتحرك لمساعتها, فهو يعلم تماما انها لا تقبل المساعدة من رجل حتي ولو كان علي حساب صحتها فكم من مرة أحرجته واهانته بكلمات فظة لمجرد انه حاول مساعدتها, يشفق عليها كثيرا ولا يفهم مبرر تصرفها , هي بالطبع تكره الرجال ولكنه يتعجب كثيرا من سبب ذلك فهي صنف من النساء لم يعتد أن يراه في بلدته , ولو كانت زوجته مستيقظة لناداها لمساعدة هذه المسكينة-في نظره- في حمل الحقيبة أو ايقاف سيارة اجرة لها.
نزلت مرة اخري وهي ثائرة , تردد عبارات الضجر , حتي اخيرا وجدت ضالتها , فاستقلت السيارة متجهة الي المطار.
...
في المطار جلست في انتظار طائرتها , فذهبت لتتناول فنجانا من القهوة التي لم تتناولها في منزلها, فقد اعتادت الجلوس في هذا المقهي وحدها عندما تكون علي سفر , هذه حياتها التي اختارتها والتي تحياها كل يوم.
..في المطار جلست في انتظار طائرتها , فذهبت لتتناول فنجانا من القهوة التي لم تتناولها في منزلها, فقد اعتادت الجلوس في هذا المقهي وحدها عندما تكون علي سفر , هذه حياتها التي اختارتها والتي تحياها كل يوم.
أثناء جلوسها فوجئت بأرجل تقترب منها , رفعت عينيها لتراه أمامها , في حلة أنيقة , ماسكا باحدي يديه حقيبة سوداء وعلي وجهه ابتسامة خفيفة. فركت عينيها لئلا تكون الهواجس قد عادت اليها مرة أخري ,فقد كانت فارقتها من زمن, ولكنها وجدته يمد يده لمصافحتها..
"كيف حالك؟! مفاجأة سارة أن أراكِ هنا بعد كل السنوات التي مرت"
مدت يدها في تردد وقالت له
" الحمدلله بأحسن حال , لم أكن يوما في حال أفضل من ذلك,وأنت؟ ما الذي أتي بك الي هنا؟!"
ضحك من ردها , ولم يتعجب انها لم تتغير , فلازالت العدائية تغلب علي كلامها.
تذكرها وتذكر اخر مرة ودعها فيها حين قالت له
"انا لا اريد نسخة اخري من أبي, انا لست "أمينة" اذا كنت انت "سي السيد" , اذهب وابحث عن واحدة غيري ترضي أن تحبسها في سجنك وتقيدها بأغلالك التي لا تُطاق اما أنا فاتركني لحريتي وطموحاتي , لن اجعلك سببا في ضياع احلامي"
كانت تتكلم يومها بتهكم وسخرية منه , ولكنه استطاع لمح عَبرة ترقرقت في عينيها لم ينساها طوال حياته حتي بعد ان تركته ورحلت ورحل عنها هو.
أشفق عليها يومها لدرجة انه احيانا كان يؤنب نفسه علي ما فعله معها. هو يعترف بينه وبين نفسه أنه أراد أن يكون "رجلاً" بالمعني الذي يُرضيه فلم يكن يريد هو الاخر ان يكون نسخة اخري من ابيه , رجلاً ضعيفاً تحكمه امرأة متسلطة. لقد كره الضعف , وكره المرأة المتسلطة , ولكن شاءت الاقدار ان تجمعه بها.
حاولت جذب انتباهه مرة اخري فقالت له
"لم تُجبني ما الذي أتي بك الي المطار؟!"
ابتسم في وجهها محاولا مداراة ما كان يفكر به ثم اجابها
"السفر بالطبع , سأسافر في عمل الي اليابان , وأنتِ؟"
"أنا أيضا مسافرة في عمل ولكن الي فرنسا , هل زرتها من قبل؟!"
"لا للأسف لم تسنح لي الفرصة , فانا لم أخرج عن نطاق الشرق الأقصي"
"لقد زرت اليابان مرة , لم أترك بلداً لم أزرها , لقد مررت بكل بلدان العالم ولكني دائما اجد راحتي هنا في مصر"
تعجب مما قالته ,فقال لها في محاولة لاستفزازها:
"علي الرغم من أنك كنتِ ترغبين في الهجرة والحياة خارجها , أنسيتي؟"
اجابته هي في تحدٍ وحنقة
"لا لم أنس ولكن تغيرت وجهات نظري قليلاً , ألم تتغير وجهات نظرك؟ أم انك تراه لا يليق برجل مثلك أن تتغير أراؤه؟"
لم يجبها ولكنها لمحته ينظر الي يديها باحثا عن شيء كانت تدركه , فحاولت ان تبادره السؤال
"أتزوجت؟!"
نعم.. احدي قريباتي , ابنه خالتي , تعرفينها أنتي , تلك الفتاة الهادئة الرقيقة , أتتذكرينها؟
"نعم بالطبع..بالطبع أتذكرها"
ثم استدركت في تهكم
"اتذكر ونحن صغار حين كانوا يسخرون منها ومن سذاجتها وضعفها فهي لم تعرف ابداً كلمة لا , الهذا اخترتها؟!
"ربما , وربما لأنني وجدت معها راحتي"
نظرت اليه في خبث واستنكار وقالت له
"وهل وجدت راحتك؟"
نظر هو اليها في خبث يغلب خبثها وقال لها
"وهل وجدتِ انتِ راحتك؟"
مرة لحظات من الصمت بينهما , كل منهما كان يبحث عن الجواب في عيني الأخر وهو يدرك تماما ما الذي يدور في ذهن الأخر وما يرمي اليه , طالت النظرات كل منهما يحملق في الاخر وكأنه كان عتاب طويل بالأعين وليس بالشفتين , قطع صمتهما ضحكتان عاليتان خرجتا منه ومنها في ان واحد , وطالت الضحكتان حتي غطي وجهه الاحمرار وترقرت الدموع في عينيها من فرط الضحك ولم يقاطعهما سوي النداء بالمطار حيث كانت ستقلع طائرته وكأنه جاء ليخطف تلك الضحكات المتعالية منهما , فتوقفا عن الضحك فجأة وعبس وجه كل منهما.
استأذن منها وهم بالانصراف , فودعته وتصافحا , ربتت هي علي يده في حنان غير معهود وقالت له
"لا تُهمل زوجتك , راعها جيدا ولا تتركها وحدها كثيرا فهي تستحق مِنك ذلك"
رد عليها بابتسامة حانية
"وأنتِ لا تُهملي نفسك , راعيها جيدا ولا تتركيها وحدها كثيرا فهي تستحق مِنكِ ذلك"
سمعا النداء بالمطار ينبه باقلاع طائرتها هي , فاستودعته وذهبت هي لطائرتها وذهب هو في الاتجاه الأخر.