تعلمت أن الحواس خمسة:حاسة الابصار , حاسة السمع , حاسة الشم , حاسة التذوق , وأخيرا حاسة اللمس.
خمس حواس جسدية , ناتجة عن وظائف أعضاء الجسم المختلفة , أوامر يصدرها المخ وينفذها باقي أعضاء الجسم..أي أننا نتكلم عن ((الانسان الجسد)).
فماذا عن ((الانسان الروح))؟
هل هناك حواس روحانية؟!
وإن كان هناك بالفعل هل هي خمسة أيضا , هل الروح تبصر وتسمع وتشم وتتذوق وتلمس , أم أنها تختلف؟!
إن كلمة حواس مشتقة من (حس) , من (احساس) ولكن أي احساس أقصده؟
لقد تعودنا أن نستخدم كلمة (احساس) حين نتحدث عن العاطفة , أي أن الاحساس عندنا ممثل في العاطفة , أي أن الاحساس يتساوي والمشاعر , أي استخدام معنوي لوصف أشياء روحانية
فالعاطفة في تخيلنا شيء روحاني بحت , مفصولا كليا عن الجسد.
حتي إننا عندما نصف شخصا برقة مشاعره نصفه بالحساسية المفرطة فنقول انه (شخص حسّاس).
بالرغم من اننا عندما استخدمناه لوصف الحواس كما سبق , كان استخدام ماديا , لوصف أشياء جسدية , فالحواس الخمسة كما اتفقنا وظائف فسيولوجية يقوم بها المخ وسائر أعضاء الجسم.
عندما سألت نفسي.. هل الاحساس وظيفة فسيولوجية جسدية أم انه صفة روحانية؟
احترت كثيرا , فالاجابة في الحالتين "نعم"
فالحواس الخمسة وظائف جسدية , ولكن في نفس الآن الروح أيضا تبصر ولكن بلا عينين وتسمع بلا أذنين وتشم بلا انف و تتذوق بلا لسان وتلمس بلا أصابع يغطيها الجلد.
الانسان روح تسكن جسد , خُلقا معا -وان سبق أحدهما الاخر- ليمثلا معا وحدة واحدة , غير منفصلة , وحدة حية , تعيش وتقوم بسائر الوظائف الحيوية والروحية معا وفي آن واحد.
حين نتحدث عن الانسان من منظور واحد فاننا بذلك نظلمه , بل يمكنني القول اننا حينها لا نتحدث عن "انسان" وانما عن جماد بلا روح أو عن سراب بلا جسد أي عن "نصف انسان" كما أسميه أنا.
وتكون صدمتنا الكبري حين نخوض حديثا عن شيء غير مرئي , أي معنوي بحت.
كالمشاعر..الحب مثلا..
لأننا احترنا كثيرا في تفسير كينونته ومصدره ولأنه ارتبط دائما بأعراض جسدية ووظائف جسمانية كزيادة ضربات القلب وبرودة اليدين والأرق من شدة التفكير في الحبيب..الخ فقد حاولنا ايجاد مصدر جسدي له , شيء ملموس نراه , واتفقنا جميعا علي اختيار (القلب) ليكون مصدر ذلك الشعور العظيم.
وربما كان ذلك لان "القلب" في كل شيء هو أصله وأعمق أجزاؤه وأهمها ولذلك كان القلب دائما هو مصدر الشعور والعاطفة علي الرغم من أن المسئول الأول والمتحكم الأول في الجسد وفي القلب هو المخ. ومخ الانسان بتكوينه الأوحد هو ما جعله مميزا عن سائر الكائنات الحية التي هي أيضا روح وجسد.
عندما تسأل أحدهم أن يدعو لك بالخير ترجوه أن يكون الدعاء "من قلبه" أي من داخله , من بؤرة ومركز انسانيته و روحانيته. فلن تقول له مثلا "ادع لي من روحك" , لأننا جعلنا للروح مركزا متمثلا في القلب لنستطيع الوصف ولنتمكن من ايجاد نقطة تتجمع فيها الروح التي شاء الله أن تكون من أمره وأن تكون من الغيبيات التي لا نعلم عن ماهيتها شيئا.
أي أننا دائما نحاول طمس وتغيير معالم روحانيتنا ووصفها الدائم بصفات جسدية لأننا نجيد التعامل مع الجسد المحسوس ولكننا نعجز عن التعامل مع الروح الغير ملموسة.
ان الانسان في حاجة لنصفيه معا ليتحقق التوازن , ففي أقدس العلاقات التي جعلها الله علي الأرض , جعل الله في الزواج مودة ورحمة وأيضا علاقة جسدية وعقلية , من أجل تحقيق التوازن الانساني بين الزوجين ومن هنا جاءت (السكينة) التي هي مؤشر لنجاح العلاقة , أي راحة للروح وللجسد معا.
وأي خلل يحدث في هذا التوازن لن يخرج سببه عن اغفال أي من طرفي هذا التوازن , إما الروح وإما الجسد.
وهذا المزيج الروحي الجسدي يظهر في كل شيء في حياة الانسان , فالعاطفة يلعب المخ دور رئيسي فيها , وكذلك الحواس الجسدية والوظائف الجسدية فللروح دور كبير فيها..
وهذا يفسر الكثير من الأمراض (النفس-جسمانية) التي قد تصيب البعض , وهي أمراض تصيب النفس ويتداعي لها الجسد أي تظهر بأعراض جسمانية , كالاكتئاب الذي من الممكن أن يظهر بالام جسدية أوخلل في اجهزة الجسم المختلفة , وهذا من أكبر الأمثلة علي الامتزاج بين الروح والجسد أو النفس والجسد , فهما وحدة واحدة لا تنفصل ولا يمكننا مهما حاولنا أن نباعد بينهما والا قمنا بتدمير ذلك المسمي "انسان" واظهاره بصفات جديدة تفتقر الي صفاته الطبيعية التي خُلق بها.
وحتي الايمان , فهو ما وقر في القلب وصدقّه العمل , فأنت تؤمن بقلبك وروحك وتمارس الطقوس الدينية بقلبك وجسدك معا , فالصلاة ليست كلمات تنطقها وأفعال تؤديها وانما تشعر بها وتلمسها بروحك قبل أن تنطقها بلسانك الذي هو عضو من أعضاء جسدك.
ومن هنا صارت اعمالنا تُحسب بالنية الداخلية وليس بمجرد الفعل الجسدي , فشرط النية شرط أساسي لقبول اعمالنا , أي يجب ان يكون العمل نابع من ذلك المزيج الروحي الجسدي الذي تحدثنا عنه.
وفي عصر صرنا لا نؤمن فيه الا بكل ما هو مادي , أصبحنا نتعامل مع
"الانسان الجسد"
فصار كلامنا ليس أكثر من ألفاظ تتلفظها شفاهنا , وصارت كلماتنا خالية من كل ما يلمس الروح فينا , شعارات تُقال, أحاسيس لا تصل الي القلوب أو الأرواح وانما الي عقولنا, حتي صارت أرواحنا هائمة خاملة فقد تركناها كنبتة جفت اوراقها فما عادت تقوي علي شيء.
في عصر صرنا نتعامل فيه بأحرف الكترونية علي أجهزة الكمبيوتر و الهواتف الجوالة , وتلخصت فيه زيارات الأهل لبضع دقائق مجرد "اداء واجب" حتي لا يُقال ما يقال , بلا أي صلات روحانية مجرد تواجد بالأجساد في مكان واحد.
في عصر شهد الاف من قضايا الاغتصاب وقضايا اثبات النسب و أول قضية "تحرش جنسي" ترفعها فتاة ضد (نصف انسان) وما اكثرهم في زماننا, مجرد جسد يلبي نداءاته بلا أدني شعور منه بالطرف الاخر ومشاعره.
في عصر صار التدين فيه مظاهر مادية , شعارات أيضا , والله وحده أعلم بالقلوب.
في عصر صار الفن فيه مجرد ساحة لعرض الأجساد والتفنن في ابرازها بشكل تخجل منه أرواحنا وتختبيء عارا وخزيا, فحتي كلمات الاغاني وألحانها أصبحت خالية من كل ما يمس الروح ويحركها, بل كل ما يمس الجسد ويثيره.
في عصر ظلم فيه الانسان نفسه , فصار التعامل بنصف انسانيته , أما النصف الآخر فأظنني آراه وأبصره بروحي يحلق هائما باحثا عن جسد آخر ونصف آخر يسكنه ويمتزج به بعد أن صار التناغم بين الروح والجسد من الصعاب في عصرنا.
دعوة لكل انسان أن يبحث في داخله عن نفسه عن نصفه الآخر الروحاني وأن يتأكد من تواجده وامتزاجه بنصفه الجسدي , من أجل عودة "الانسانية" الي حياتنا وليس "النصف انسانية" التي صرنا نعيش فيها حتي اننا قاربنا علي حافة "اللانسانية" دون أن نشعر , ومن أين يأتينا (الشعور) بعد أن كادت تتخلي عنا أرواحنا؟!
..