تستيقظ علي صوت نقرات خارج نافذتها الخشبية , تلقي الغطاء في عجلة وتهرول تجاه النافذة , تزيح الستار وتدعك عينيها في محاولة لازالة آثار ليلة طويلة من الأحلام المزعجة.
تنظر من خلف الزجاج لتري حبات المطر وهي تصطدم بزجاج النافذة وكأنها تستغيث بها كي تفتح نافذتها لتدخل وتنعم ببعض الدفء. تمد بصرها قليلا لتشاهد أعدادا من البشر يجرون يمينا ويسارا محاولين الاختباء والتستر من الأمطار المنهمرة فوق رؤسهم. تبتسم.. تنظر الي الشجرة المقابلة لمنزلها , تحاول البحث عن أي عصفور من أصدقائها فلا تجد , فجميعهم قد اختبئوا بين الأوراق كي تمنع عنهم قطرات المطر المتساقطة. تضحك.. ترفع عينيها الي السماء الملبدة بالغيوم , والتي تصدر أصوات الرعد من فوقها وكأنها تعلن عن وجودها , فتبتسم من جديد , يفاجئها بريق من البرق فتبتعد عن النافذة فجأة ثم تضحك من ردة فعلها القلقة.
..
فتحت زجاج النافذة ليفاجيء رئتيها الهواء البارد المحمل بقطرات باردة أصابتها برعشة خفيفة , أغمضت عينيها ومدت يدها لتلمس حبات المطر في سعادة , وهي تستمتع بتلك الرائحة التي تعشقها منذ طفولتها , رائحة امتزاج الماء بالتراب وبرودة الهواء, وكأنها رسالة من السماء لكل انسان علي وجه الأرض لتذكره بأصله الذي انحدر منه. صوت الرعد وأضواء البرق تشعرها بمزيج من الرهبة والسعادة , فها هي أبواب السماء تفتح لاستقبال دعواتها.
.
ما كل هذا القلق والخوف الذي ينتاب العالم حين تمطر, الكل يختبيء , الكل يحتمي , تعجبت من كل ما رأت وسخرت منه . هي لا تستسلم أبدا , ولا يعني أنها أمطرت أن تجلس حبيسة المنزل , لا شيء يمنعها أبدا , هذه هي وهكذا قررت أن تكون منذ زمن بعيد.
تركت نافذتها , واتجهت الي دولاب ملابسها , ارتدت ثيابا ثقيلة ولم تنس تلك الكوفية المفضلة لديها , الناعمة كفراء الهررة , وأخيرا وضعت معطفها الطويل الثقيل , وخرجت من منزلها.
أمام الباب وقفت تنظر لأرض الشارع التي تحولت لأرض طينية يرتفع فوقها الماء بضع سنتيمترات. نظرت الي حذائها ذو الكعب المرتفع محاولة طمأنة نفسها ثم خطت خطوتها الأولي في حذر محاولة تجنب الانزلاق علي الأرض الغارقة , خطوة فاثنتان فثلاث فأربع.. الي أن انزلقت قدمها , فاختل توازنها وسقطت علي الأرض وابتلت ملابسها ولطخها الطين , تأوهت آهة يخالطها مزيج من البهجة والسخرية من نفسها ومما تفعل.
قامت من الأرض وهذه المرة سارت بخطوات غير مبالية , خطوات أكثر ثباتا وأكثر عنادا ,أكثر اصرارا علي المضي في طريقها , والسير تحت زخات المطر.
اتجهت الي أقرب متجر , ودخلت لتبتاع حلوي الآيس كريم المثلجة التي تعشقها , نظر اليها كل من بالمتجر في ذهول وتعجب , فمن هذه فاقدة العقل التي تبتاع حلوي مثلجة في يوم ممطر وبارد كهذا؟! لم تبال بنظراتهم ,حملت الحلوي وسارت تحت الأمطار تنقرها وهي غير مبالية. الي أن وصلت لأحد المقاعد فذهبت لتجلس وتأكل الحلوي المثلجة.
بجوارها جلست فتاة صغيرة تحتمي من الأمطار, وما أن رأتها تفعل ما تفعل حتي نظرت اليها في تعجب كالآخرين. نظرت هي الي الفتاة وتبتسمت لها ثم سألتها أن تشاركها أكل الحلوي المثلجة , شكرتها الفتاة الصغيرة وهي تعتذر لها فالجو بارد جدا وتخشي أن تصاب بالبرد ثم عرضت عليها بعضا من شراب الشكولاتة الدافيء الذي كانت تحمله بيديها, فاعتذرت لها بابتسامة وأخبرتها أنها تفضل حلوي الآيس كريم المثلجة.
.
تعجبت الفتاة الصغيرة مرة اخري ثم سألتها كيف تأكلها هي؟ مرة أخري ابتسمت لها ثم أخبرتها بأن هذا هو الوقت المفضل لديها لأكل حلوي الآيس كريم , وعندما أشارت لها الفتاة بعدم فهم السبب , أجابتها بأنها تكره الاستسلام, ولما لم تفهم الفتاة علاقة ذلك بالأمر, حاولت الايضاح أكثر فأخبرتها أن حلوي الايس كريم المثلجة تحتفظ بقوامها المميز في الشتاء فقط حيث الجو البارد , وتذوب انهيارا في الصيف حيث الحرارة التي تذيبها رغما عنها فما يكون منها الا أن تتخلي عن قوامها المميز وتتحول لمادة سائلة فقدت خواصها المميزة مثلها مثل أي شيء يرضخ لما يتعرض له من ضغوط كمشروب الشكولاتة الدافيء الذي بيدها والذي سرعان ما سيفقد دفئه ويتحول لمشروب بارد كبرودة الطقس من حوله.
نظرت اليها الفتاة الصغيرة وعلامات الاستفهام تحيطها من كل جانب , وهي تبتسم من عدم استيعاب الفتاة لما تقول , فهي لم تفهم بعد السر في أن يحتفظ الشيء بقوامه أو بدفئه . نظرت اليها محاولة طمأنتها وأخبرتها أنها عندما تكبر قليلا ستدرك أهمية أن تحتفظ الأشياء بخصائصها المميزة رغم ما تتعرض له من حولها.
..تمت..